أسباب انشراح الصدر
" رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي....."
أولاً: تحقيق العبودية الكاملة لله عز وجل
ثانياً: أداء الواجبات، والإكثار من المندوبات، والانتهاء عن المحرمات والمكروهات
ثالثاً: الاعتصام بالسنة والحذر واجتناب البدع
رابعاً: الرض بقضاء الله وقدره وقسمته
خامساً: الإكثار من ذكر الله عز وجل واللهج به في كل وقت وحين
سادساً: الاشتغال بالعلم الشرعي
سابعاً: ترك الفضول
ثامناً: الشجاعة والسخاء
تاسعاً: الإحسان إلى الخلق
عاشراً: الدعاء والتضرع إلى الله
الحمد لله رب العالمين والعافية للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين وصلى الله وسلم على من شرح الله صدره ووضع عنه وزره ورفع له ذكره وعلى جميع أنبيائه ورسله.
شرح الصدر من النعم العظيمة، والآلاء الجسيمة، والمطالب العزيزة، وأسباب السعادة الرئيسة في الدنيا والآخرة.
ولهذا سألها موسى ربه أول ما سأل: "قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي"1.
بينما منحها الله عز وجل لخليله محمد صلى الله عليه وسلم من غير سؤال فقال ممتناً عليه بذلك: "أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ"2.
بل جعلها الله عز وجل سبباً رئيساً للهداية فقال: "فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ"3. وقال: "أَفَمَن شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ"4.
أما بعد...
فهذا بحث عن الأسباب الرئيسة لإنشراح الصدر الذي يرجوه ويتمناه كل كيس فطن، ويسعى للحصول عليه كل مؤمن تقي.
انشراح5 الصدر أسبابه كثيرة والطرق للوصول إليه عديدة وسنشير إلى أهمها فنقول:
↑
أولاً: تحقيق العبودية الكاملة لله عز وجل
فالإيمان بالله عز وجل وتوحيده في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته انفع الأسباب لشرح الصدر وكلما حقق المرء عبوديته لربه ومولاه وأخلص فيها كلما ازداد سروراً وانشراحاً وإقبالاً عليه.
وعلى العكس والنقيض فإن الشك والكفر أسباب رئيسة لضيق الصدر والحرج " وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا "6 فالإيمان هو النور الذي يضيء للعبد طريقه.
قال ابن القيم رحمه الله: (فالهدى والتوحيد من أعظم أسباب شرح الصدر، والشرك والضلال من أعظم أسباب ضيق الصدر وانحراجه)7.
يروى مرفوعاً ومرسلاً: "إذا دخل النور القلب انفسح وانشرح. قاالوا: وما علامة ذلك يا رسول الله؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله"8.
فمن رغب في شرح الصدر فعليه السعي في تحقيق عبوديته الكاملة لربه ولهذا كان الأنبياء أوسع واشرح الناس صدوراً، وأكملهم في هذا الباب وأسعدهم بذلك هو خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم.
↑
ثانياً: أداء الواجبات، والإكثار من المندوبات، والانتهاء عن المحرمات والمكروهات
الإيمان قول وعمل واعتقاد فمن آمن بالله وصدقه يتعين عليه أداء ما أوجبه الله عليه والإكثار من تعاطي المندوبات والانتهاء والامتناع عن المحرمات والمكروهات.
وأداء الواجبات أهم وأولى من الانتهاء عن المحرمات.
والمعاصي يريد الكفر وسبب لقسوة القلب.
ما تقرب إلى الله عز وجل بأحب ما افترضه على عباده ومن رام محبة الله فعليه الإكثار من النوافل: "وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب مما افترضته عليه وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه"9.
والتهاون عن المندوبات يؤدي إلى التكاسل عن الواجبات والاستهانة بالمكروهات طريق التجرؤ واقتحام الكبائر الموبقات.
↑
ثالثاً: الاعتصام بالسنة والحذر واجتناب البدع
كذلك من أسباب شرح الصدر وسعادة القلب، الاعتصام بسنة سيد المرسلين، والاقتداء بهديه والسير على طريقته، ومجانبة البدع المحدثات.
قال عليه الصلاة والسلام: "...فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة"10. وقال: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" متفق عليه، وفي رواية لمسلم11: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد".
وذلك لأن السنة هي الإسلام هي الشريعة هي الدين.
↑
رابعاً: الرضا بقضاء الله وقدره وقسمته
من أسباب انشراح الصدر رضا العبد وإذعانه ومحبته لقضاء الله وقدره، فهو سبحانه الحكيم العليم اللطيف الخبير بعباده، وهو أرحم بعباده من الأم الرؤوم ولهذا مدح الله المؤمنين قائلاً: "الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ"12.
فنعمى العدلان ونعمى العلاوة كما قال عمر رضي الله عنه.
↑
خامساً: الإكثار من ذكر الله عز وجل واللهج به في كل وقت وحين
قال تعالى: "فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ"13 وقال: "وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى"14.
فالمداومةعلى ذكر الله ضمان أن يذكره ربه ولا ينساه قال تعالى محذراً لنا من حال أهل الغفلة: "وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ"15.
ولهذا عندما نادى يونس عليه السلام ربه وهو في تلك الحال: "لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ"16 قالت الملائكة ـ وهو أعلم بما نادى ـ: يا رب صوت معروف من عبد معروف.
فالذاكر لربه محسن لنفسه أولاً ومحسن وشاكر لربه ثانياً، والله سبحانه وتعالى يفرج عن المحسنين في الدنيا والآخرة فكما أن المحسنين يعيشون في سعة وانشراح صدر وقرة عين في الدنيا مهما ضاقت بهم الظروف وحلت بهم الكوارث والمحن، نحجد المسيئين المقصرين في حقوق ربهم وأنفسهم أكثر الناس شقاء وبلاءً مع ما يعيشون فيه من النعيم، ويتقلبون فيه من الترف، ولا أدل على ذلك من كثرة وتفشي جريمة الانتحار عند الكفار.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: (وما يجازى به المسيء: من ضيق الصدر، وقسوة القلب، وتشتته، وظلمته، وحزازته، وغمه، وهمه، وحزنه، وخوفه. وهذا أمر لا يكاد من له أدنى حس وحياة يرتاب فيه، بل الغموم والهموم والأحزان والضيق: عقوبات عاجلة: ونار دنيوية، وجهنم حاضرة.
والإقبال على الله تعالى، والإنابة إليه، والرضى به وعنه، وامتلاء القلب من محبته، واللهج بذكره، والفرح والسرور بمعرفته، ثواب عاجل، وجنة لا نسبة لعيش الملوك إليه البتة.
ثم مثل لذلك:
*
سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: إن في الدنيا جنة17 من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة.
*
وقال لي مرة: (ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري. إن رحت فهي معي لا تفارقني. إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة).
*
وكان يقول في محبسه في القلعة18: (لو بذلت ملء هذه القلعة ذهباً ما عدل عندي شكر هذه النعمة)، أو قال: (ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير). ونحو هذا.
*
وكان يقول في سجوده وهو محبوس: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك). ما شاء الله.
*
وقال لي مرة: (المحبوس من حبس قلبه عن ربه تعالى، والمأسور من أسره هواه).
*
ولما دخل إلى القلعة ـ السجن ـ وصار داخل سورها، نظر إليه وقال: "فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ"19.
*
وعلم الله ما رأيت أحداً أطيب عيشاً منه قط. مع ما كان فيه من ضيق العيش، وخلاف الرفاهية والنعيم، بل ضدها. ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق. وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشاً، وأشرحههم صدراً، وأقواهم قلباً، وأسرهم نفساً، تلوح نضرة النعيم على وجهه.
*
وكان إذا اشتد بنا الخوف، وساءت بنا الظنون، وضاقت بنا الأرض آتيناه، فما هو إلا أن نراه، ونسمع كلامه، فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحاً وقوة ويقيناً وطمأنينة.
*
فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل، فآتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفز قواهم لطلبها، والمسابقة إليها.
*
وكان بعض العارفين يقول: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه، لجالدونا عليه بالسيوف.
*
وقال آخر: مساكين أهل الدنيا، خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها. قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبة الله تعالى، ومعرفته، وذكره. أو نحوهذا.
*
وقال آخر: إنه لتمر بالقلب أوقات يرقص فيها طرباً.
*
وقال آخر: إنه لتمر بي أوقات أقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب.
إلى أن قال:
فمحبة الله تعالى، ومعرفته، ودوام ذكره، والسكون إليه، والطمأنينة إليه، وإفراده بالحب، والخوف، والرجاء، والتوكل، والمعاملة، بحيث يكون هو وحده المستولي على هموم العبد وعزماته وإرادته. هو جنة الدنيا، والنعيم الذي لا يشبهه نعيم20، وهو قرة عين المحبين، وحياة العارفين)21.
↑
سادساً: الاشتغال بالعلم الشرعي
العلم النافع هو أساس كل خير ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل ربه علماً نافعاً ويستعيذ به من ععلم لا ينتفع به، فلا سبيل لشرح الصدر إلا عن طرق العلم الشرعي الموصل لميراث الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: "إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء"22 فقصر خشيته ومعرفته والخوف منه على العلماء.
قال ابن القيم رحمه الله وهو يعدد أسباب شرح الصدر: (ومنها: العلم، فإنه يشرح الصدر، ويوسعه حتى يكون أوسع من الدنيا، والجهل يورثه الضيق والحصر والحبس، فكلما اتسع علم العبد انشرح صدره واتسع، وليس هذا لكل علم، بل للعلم الموروث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو العلم النافع، فأهله أشرح الناس صدراً، وأوسعهم قلوباً، وأحسنهم أخلاقاً، وأطيبهم عيشاً)23.
↑
سابعاً: ترك الفضول
من الأسباب التي تورث شرح الصدر واتساعه ترك الفضول: فضول الأكل والشرب والنوم والكلام ومخالطة الناس والاهتمام، وكل ما لا يعنيه ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"24 وقال: "ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطنه. بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه"25.
ولذات السبب نهانا ربنا عن الإسراف: "وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ"26.
قال ابن القيم رحمه الله: (ومنها: ترك فضول النظر، والكلام والاستماع والمخالطة، الأكل والنوم، فإن هذه الفضول تستحيل آلاماً وغموماً، وهموماً في القلب، تحصره وتحبسه وتضيقه، ويتعذب بها، بل غالب عذاب الدنيا والآخرة منها، فلا إله إلا الله ما أضيق صدر من ضرب في كل آفة من هذه الآفات بسهم، وما أنكد عيشه، وما أسوأ حاله، وما أشد حصر قلبه، ولا إله إلا الله ما أنعم عيش من ضرب في كل خصلة من تلك الخصال المحمودة بسهم) 27.
↑
ثامناً: الشجاعة والسخاء
هاتان الخصلتان من الخصال الحميدة اللتان يحبهما الله ورسوله وسائر الخلق، وفي الغالب لا يفترقان فما من سخي إلا وهو شجاع، وما من شجاع إلا وهو سخي كريم.
الموفق من طبع على هاتين الخصلتين وكانتا جاريتين في دمه وممزوجتين بلحمه وعظمه.
ومن لم يكن مطبوعاً عليهما فعليه أن يجاهد نفسه ويدربها ويعودها على ذلك، فالعلم بالتعلم.
هاتان الصفتان من أسباب انشراح الصدر وفاقدهما ضيق الصدر نكد العيش.
صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طريق أبي هريرة رضي الله عنه قال: "مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جبتان28 من حديد من ثدييهما إلى تراقيهما، فأما المنفق، فلا ينفق إلا سبغت 29 أو وفرت على جلده حتى تخفي بنانه وتعفو أثره.
وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئاً إلا لزقت كل حلقة مكانها قهو بوسعها فلا تتسع"30.
↑
تاسعاً: الإحسان إلى الخلق
من أسباب انشراح الصدر واتساعه وبهجته وسروره الإحسان إلى الناس، والاهتمام بهم والحرص على نصحهم ومساعدتهم والشفاعة لضعفائهم، وتعليم جاهلهم، ورد غاويهم.
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله" واحسبه قال: "وكالقائم لا يفتر، وكالصائم لا يفطر"31.
↑
عاشراً: الدعاء والتضرع إلى الله
من أنجح الأسباب لشرح الصدر الدعاء والتضرع وسؤال الله ذلك، فإذا دعا موسى بذلك، فنحن من باب أولى أن نسأل ربنا أن يشرح صدورنا وينورها ويصلحها.
كما ذكرت سابقاً فإن أسباب انشراح الصدر كثيرة جداً فكل ما يحبه الله ورسوله ويرضيانه فهو سبب لانشراح الصدر وكل ما يبغضه الله ورسوله فهو سبب لضيق الصدر وقسوة القلب.
اللهم اشرح صدورنا ويسر أمورنا واختم لنا بخير وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه والتابعين.
↑
" رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي....."
أولاً: تحقيق العبودية الكاملة لله عز وجل
ثانياً: أداء الواجبات، والإكثار من المندوبات، والانتهاء عن المحرمات والمكروهات
ثالثاً: الاعتصام بالسنة والحذر واجتناب البدع
رابعاً: الرض بقضاء الله وقدره وقسمته
خامساً: الإكثار من ذكر الله عز وجل واللهج به في كل وقت وحين
سادساً: الاشتغال بالعلم الشرعي
سابعاً: ترك الفضول
ثامناً: الشجاعة والسخاء
تاسعاً: الإحسان إلى الخلق
عاشراً: الدعاء والتضرع إلى الله
الحمد لله رب العالمين والعافية للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين وصلى الله وسلم على من شرح الله صدره ووضع عنه وزره ورفع له ذكره وعلى جميع أنبيائه ورسله.
شرح الصدر من النعم العظيمة، والآلاء الجسيمة، والمطالب العزيزة، وأسباب السعادة الرئيسة في الدنيا والآخرة.
ولهذا سألها موسى ربه أول ما سأل: "قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي"1.
بينما منحها الله عز وجل لخليله محمد صلى الله عليه وسلم من غير سؤال فقال ممتناً عليه بذلك: "أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ"2.
بل جعلها الله عز وجل سبباً رئيساً للهداية فقال: "فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ"3. وقال: "أَفَمَن شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ"4.
أما بعد...
فهذا بحث عن الأسباب الرئيسة لإنشراح الصدر الذي يرجوه ويتمناه كل كيس فطن، ويسعى للحصول عليه كل مؤمن تقي.
انشراح5 الصدر أسبابه كثيرة والطرق للوصول إليه عديدة وسنشير إلى أهمها فنقول:
↑
أولاً: تحقيق العبودية الكاملة لله عز وجل
فالإيمان بالله عز وجل وتوحيده في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته انفع الأسباب لشرح الصدر وكلما حقق المرء عبوديته لربه ومولاه وأخلص فيها كلما ازداد سروراً وانشراحاً وإقبالاً عليه.
وعلى العكس والنقيض فإن الشك والكفر أسباب رئيسة لضيق الصدر والحرج " وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا "6 فالإيمان هو النور الذي يضيء للعبد طريقه.
قال ابن القيم رحمه الله: (فالهدى والتوحيد من أعظم أسباب شرح الصدر، والشرك والضلال من أعظم أسباب ضيق الصدر وانحراجه)7.
يروى مرفوعاً ومرسلاً: "إذا دخل النور القلب انفسح وانشرح. قاالوا: وما علامة ذلك يا رسول الله؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله"8.
فمن رغب في شرح الصدر فعليه السعي في تحقيق عبوديته الكاملة لربه ولهذا كان الأنبياء أوسع واشرح الناس صدوراً، وأكملهم في هذا الباب وأسعدهم بذلك هو خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم.
↑
ثانياً: أداء الواجبات، والإكثار من المندوبات، والانتهاء عن المحرمات والمكروهات
الإيمان قول وعمل واعتقاد فمن آمن بالله وصدقه يتعين عليه أداء ما أوجبه الله عليه والإكثار من تعاطي المندوبات والانتهاء والامتناع عن المحرمات والمكروهات.
وأداء الواجبات أهم وأولى من الانتهاء عن المحرمات.
والمعاصي يريد الكفر وسبب لقسوة القلب.
ما تقرب إلى الله عز وجل بأحب ما افترضه على عباده ومن رام محبة الله فعليه الإكثار من النوافل: "وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب مما افترضته عليه وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه"9.
والتهاون عن المندوبات يؤدي إلى التكاسل عن الواجبات والاستهانة بالمكروهات طريق التجرؤ واقتحام الكبائر الموبقات.
↑
ثالثاً: الاعتصام بالسنة والحذر واجتناب البدع
كذلك من أسباب شرح الصدر وسعادة القلب، الاعتصام بسنة سيد المرسلين، والاقتداء بهديه والسير على طريقته، ومجانبة البدع المحدثات.
قال عليه الصلاة والسلام: "...فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة"10. وقال: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" متفق عليه، وفي رواية لمسلم11: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد".
وذلك لأن السنة هي الإسلام هي الشريعة هي الدين.
↑
رابعاً: الرضا بقضاء الله وقدره وقسمته
من أسباب انشراح الصدر رضا العبد وإذعانه ومحبته لقضاء الله وقدره، فهو سبحانه الحكيم العليم اللطيف الخبير بعباده، وهو أرحم بعباده من الأم الرؤوم ولهذا مدح الله المؤمنين قائلاً: "الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ"12.
فنعمى العدلان ونعمى العلاوة كما قال عمر رضي الله عنه.
↑
خامساً: الإكثار من ذكر الله عز وجل واللهج به في كل وقت وحين
قال تعالى: "فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ"13 وقال: "وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى"14.
فالمداومةعلى ذكر الله ضمان أن يذكره ربه ولا ينساه قال تعالى محذراً لنا من حال أهل الغفلة: "وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ"15.
ولهذا عندما نادى يونس عليه السلام ربه وهو في تلك الحال: "لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ"16 قالت الملائكة ـ وهو أعلم بما نادى ـ: يا رب صوت معروف من عبد معروف.
فالذاكر لربه محسن لنفسه أولاً ومحسن وشاكر لربه ثانياً، والله سبحانه وتعالى يفرج عن المحسنين في الدنيا والآخرة فكما أن المحسنين يعيشون في سعة وانشراح صدر وقرة عين في الدنيا مهما ضاقت بهم الظروف وحلت بهم الكوارث والمحن، نحجد المسيئين المقصرين في حقوق ربهم وأنفسهم أكثر الناس شقاء وبلاءً مع ما يعيشون فيه من النعيم، ويتقلبون فيه من الترف، ولا أدل على ذلك من كثرة وتفشي جريمة الانتحار عند الكفار.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: (وما يجازى به المسيء: من ضيق الصدر، وقسوة القلب، وتشتته، وظلمته، وحزازته، وغمه، وهمه، وحزنه، وخوفه. وهذا أمر لا يكاد من له أدنى حس وحياة يرتاب فيه، بل الغموم والهموم والأحزان والضيق: عقوبات عاجلة: ونار دنيوية، وجهنم حاضرة.
والإقبال على الله تعالى، والإنابة إليه، والرضى به وعنه، وامتلاء القلب من محبته، واللهج بذكره، والفرح والسرور بمعرفته، ثواب عاجل، وجنة لا نسبة لعيش الملوك إليه البتة.
ثم مثل لذلك:
*
سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: إن في الدنيا جنة17 من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة.
*
وقال لي مرة: (ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري. إن رحت فهي معي لا تفارقني. إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة).
*
وكان يقول في محبسه في القلعة18: (لو بذلت ملء هذه القلعة ذهباً ما عدل عندي شكر هذه النعمة)، أو قال: (ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير). ونحو هذا.
*
وكان يقول في سجوده وهو محبوس: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك). ما شاء الله.
*
وقال لي مرة: (المحبوس من حبس قلبه عن ربه تعالى، والمأسور من أسره هواه).
*
ولما دخل إلى القلعة ـ السجن ـ وصار داخل سورها، نظر إليه وقال: "فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ"19.
*
وعلم الله ما رأيت أحداً أطيب عيشاً منه قط. مع ما كان فيه من ضيق العيش، وخلاف الرفاهية والنعيم، بل ضدها. ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق. وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشاً، وأشرحههم صدراً، وأقواهم قلباً، وأسرهم نفساً، تلوح نضرة النعيم على وجهه.
*
وكان إذا اشتد بنا الخوف، وساءت بنا الظنون، وضاقت بنا الأرض آتيناه، فما هو إلا أن نراه، ونسمع كلامه، فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحاً وقوة ويقيناً وطمأنينة.
*
فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل، فآتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفز قواهم لطلبها، والمسابقة إليها.
*
وكان بعض العارفين يقول: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه، لجالدونا عليه بالسيوف.
*
وقال آخر: مساكين أهل الدنيا، خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها. قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبة الله تعالى، ومعرفته، وذكره. أو نحوهذا.
*
وقال آخر: إنه لتمر بالقلب أوقات يرقص فيها طرباً.
*
وقال آخر: إنه لتمر بي أوقات أقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب.
إلى أن قال:
فمحبة الله تعالى، ومعرفته، ودوام ذكره، والسكون إليه، والطمأنينة إليه، وإفراده بالحب، والخوف، والرجاء، والتوكل، والمعاملة، بحيث يكون هو وحده المستولي على هموم العبد وعزماته وإرادته. هو جنة الدنيا، والنعيم الذي لا يشبهه نعيم20، وهو قرة عين المحبين، وحياة العارفين)21.
↑
سادساً: الاشتغال بالعلم الشرعي
العلم النافع هو أساس كل خير ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل ربه علماً نافعاً ويستعيذ به من ععلم لا ينتفع به، فلا سبيل لشرح الصدر إلا عن طرق العلم الشرعي الموصل لميراث الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: "إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء"22 فقصر خشيته ومعرفته والخوف منه على العلماء.
قال ابن القيم رحمه الله وهو يعدد أسباب شرح الصدر: (ومنها: العلم، فإنه يشرح الصدر، ويوسعه حتى يكون أوسع من الدنيا، والجهل يورثه الضيق والحصر والحبس، فكلما اتسع علم العبد انشرح صدره واتسع، وليس هذا لكل علم، بل للعلم الموروث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو العلم النافع، فأهله أشرح الناس صدراً، وأوسعهم قلوباً، وأحسنهم أخلاقاً، وأطيبهم عيشاً)23.
↑
سابعاً: ترك الفضول
من الأسباب التي تورث شرح الصدر واتساعه ترك الفضول: فضول الأكل والشرب والنوم والكلام ومخالطة الناس والاهتمام، وكل ما لا يعنيه ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"24 وقال: "ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطنه. بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه"25.
ولذات السبب نهانا ربنا عن الإسراف: "وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ"26.
قال ابن القيم رحمه الله: (ومنها: ترك فضول النظر، والكلام والاستماع والمخالطة، الأكل والنوم، فإن هذه الفضول تستحيل آلاماً وغموماً، وهموماً في القلب، تحصره وتحبسه وتضيقه، ويتعذب بها، بل غالب عذاب الدنيا والآخرة منها، فلا إله إلا الله ما أضيق صدر من ضرب في كل آفة من هذه الآفات بسهم، وما أنكد عيشه، وما أسوأ حاله، وما أشد حصر قلبه، ولا إله إلا الله ما أنعم عيش من ضرب في كل خصلة من تلك الخصال المحمودة بسهم) 27.
↑
ثامناً: الشجاعة والسخاء
هاتان الخصلتان من الخصال الحميدة اللتان يحبهما الله ورسوله وسائر الخلق، وفي الغالب لا يفترقان فما من سخي إلا وهو شجاع، وما من شجاع إلا وهو سخي كريم.
الموفق من طبع على هاتين الخصلتين وكانتا جاريتين في دمه وممزوجتين بلحمه وعظمه.
ومن لم يكن مطبوعاً عليهما فعليه أن يجاهد نفسه ويدربها ويعودها على ذلك، فالعلم بالتعلم.
هاتان الصفتان من أسباب انشراح الصدر وفاقدهما ضيق الصدر نكد العيش.
صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طريق أبي هريرة رضي الله عنه قال: "مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جبتان28 من حديد من ثدييهما إلى تراقيهما، فأما المنفق، فلا ينفق إلا سبغت 29 أو وفرت على جلده حتى تخفي بنانه وتعفو أثره.
وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئاً إلا لزقت كل حلقة مكانها قهو بوسعها فلا تتسع"30.
↑
تاسعاً: الإحسان إلى الخلق
من أسباب انشراح الصدر واتساعه وبهجته وسروره الإحسان إلى الناس، والاهتمام بهم والحرص على نصحهم ومساعدتهم والشفاعة لضعفائهم، وتعليم جاهلهم، ورد غاويهم.
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله" واحسبه قال: "وكالقائم لا يفتر، وكالصائم لا يفطر"31.
↑
عاشراً: الدعاء والتضرع إلى الله
من أنجح الأسباب لشرح الصدر الدعاء والتضرع وسؤال الله ذلك، فإذا دعا موسى بذلك، فنحن من باب أولى أن نسأل ربنا أن يشرح صدورنا وينورها ويصلحها.
كما ذكرت سابقاً فإن أسباب انشراح الصدر كثيرة جداً فكل ما يحبه الله ورسوله ويرضيانه فهو سبب لانشراح الصدر وكل ما يبغضه الله ورسوله فهو سبب لضيق الصدر وقسوة القلب.
اللهم اشرح صدورنا ويسر أمورنا واختم لنا بخير وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه والتابعين.
↑